فصل: ما يتناوله التّجويد من أمور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تجزّؤ

انظر‏:‏ تبعيض‏.‏

تجسّس

التّعريف

1 - التّجسّس لغةً‏:‏ تتبّع الأخبار، يقال‏:‏ جسّ الأخبار وتجسّسها‏:‏ إذا تتبّعها، ومنه الجاسوس، لأنّه يتتبّع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، ثمّ استعير لنظر العين‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّحسّس‏:‏

2 - التّحسّس هو‏:‏ طلب الخبر، يقال‏:‏ رجل حسّاس للأخبار أي‏:‏ كثير العلم بها، وأصل الإحساس‏:‏ الإبصار، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تُحِسُّ منهم مِنْ أَحَدٍ‏}‏ أي‏:‏ هل ترى، ثمّ استعمل في الوجدان والعلم بأيّ حاسّة كانت، وقد قرئ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَجَسَّسُوا‏}‏ بالحاء ‏{‏ولا تحسّسوا‏}‏ قال الزّمخشريّ‏:‏ والمعنيان متقاربان، وقيل‏:‏ إنّ التّجسّس غالباً يطلق على الشّرّ، وأمّا التّحسّس فيكون غالباً في الخير‏.‏

ب - التّرصّد‏:‏

3 - التّرصّد‏:‏ القعود على الطّريق، ومنه الرّصديّ‏:‏ الّذي يقعد على الطّريق ينظر النّاس ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً‏.‏ فيجتمع التّجسّس والتّرصّد في أنّ كلّاً منهما تتبّع أخبار النّاس، غير أنّ التّجسّس يكون بالتّتبّع والسّعي لتحصيل الأخبار ولو بالسّماع أو الانتقال، أمّا التّرصّد فهو العقود والانتظار والتّرقّب‏.‏

ج - التّنصّت‏:‏

4 - التّنصّت هو‏:‏ التّسمّع‏.‏ يقال‏:‏ أنصت إنصاتاً أي‏:‏ استمع، ونصت له أي‏:‏ سكت مستمعاً، فهو أعمّ من التّجسّس، لأنّ التّنصّت يكون سرّاً وعلانيةً‏.‏

حكم التّجسّس التّكليفي

5 - التّجسّس تعتريه أحكام ثلاثة‏:‏ الحرمة والوجوب والإباحة‏.‏

فالتّجسّس على المسلمين في الأصل حرام منهيّ عنه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجسّسوا‏}‏ لأنّ فيه تتبّع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عمّا ستروه‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا معشر مَنْ آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ إلى قلبه لا تتبّعوا عوراتِ المسلمين‏.‏ فإنّ من تتبّعَ عوراتِ المسلمين تتبّع اللّهُ عورتَه حتّى يفضحه ولو في جوف بيته»‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ والسّتر واجب إلاّ عن الإمام والوالي وأحد الشّهود الأربعة في الزّنى‏.‏

وقد يكون التّجسّس واجباً، فقد نقل عن ابن الماجشون أنّه قال‏:‏ اللّصوص وقطّاع الطّريق أرى أن يطلبوا في مظانّهم ويعان عليهم حتّى يقتلوا أو ينفوا من الأرض بالهرب‏.‏

وطلبهم لا يكون إلاّ بالتّجسّس عليهم وتتبّع أخبارهم‏.‏

ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعث الجواسيس لتعرف أخبار جيش الكفّار من عدد وعتاد وأين يقيمون وما إلى ذلك‏.‏ وكذلك يباح التّجسّس إذا رفع إلى الحاكم أنّ في بيت فلان خمراً، فإن شهد على ذلك شهود كشف عن حال صاحب البيت، فإن كان مشهوراً بما شهد عليه أخذ، وإن كان مستوراً فلا يكشف عنه‏.‏ وقد سئل الإمام مالك عن الشّرطيّ يأتيه رجل يدعوه إلى ناس في بيت اجتمعوا فيه على شراب، فقال‏:‏ إن كان في بيت لا يعلم ذلك منه فلا يتتبّعه، وإن كان معلوماً بذلك يتتبّعه‏.‏ وللمحتسب أن يكشف على مرتكبي المعاصي، لأنّ قاعدة ولاية الحسبة‏:‏ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏.‏

التّجسّس على المسلمين في الحرب

6 - الجاسوس على المسلمين إمّا أن يكون مسلماً أو ذمّيّاً أو من أهل الحرب،‏"‏ وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرّشيد فيما يتعلّق بالحكم فيهم فقال‏:‏ وسألتَ يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذّمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين‏.‏ فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذّمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنّصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبةً، وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبةً ‏"‏‏.‏

وقال الإمام محمّد بن الحسن‏:‏ وإذا وجد المسلمون رجلاً - ممّن يدّعي الإسلام - عيناً للمشركين على المسلمين يكتب إليهم بعوراتهم فأقرّ بذلك طوعاً فإنّه لا يقتل، ولكنّ الإمام يوجعه عقوبةً‏.‏ ثمّ قال‏:‏ إنّ مثله لا يكون مسلماً حقيقةً، ولكن لا يقتل لأنّه لم يترك ما به حكم بإسلامه فلا يخرج عن الإسلام في الظّاهر ما لم يترك ما به دخل في الإسلام، ولأنّه إنّما حمله على ما فعل الطّمع، لا خبث الاعتقاد، وهذا أحسن الوجهين، وبه أمرنا‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الّذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أَحْسَنَه‏}‏ واستدلّ عليه بحديث «حاطب بن أبي بلتعة، فإنّه كتب إلى قريش‏:‏ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغزوكم فخذوا حذركم، فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فقال الرّسول لعمر‏:‏ مهلاً يا عمر، فلعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» فلو كان بهذا كافراً مستوجباً للقتل ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم بدريّاً كان أو غير بدريّ، وكذلك لو لزمه القتل بهذا حدّاً ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا عدوّي وعدوَّكم أولياء‏}‏ فقد سمّاه مؤمناً، «وعليه دلّت قصّة أبي لبابة حين استشاره بنو قريظة، فَأمَرَّ أصبعه على حلقه يخبرهم أنّهم لو نزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قتلهم»، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تَخُونوا اللّه والرّسولَ‏}‏‏.‏ وكذلك لو فعل هذا ذمّيّ فإنّه يوجع عقوبةً ويستودع السّجن، ولا يكون هذا نقضاً منه للعهد، لأنّه لو فعله مسلم لم يكن به ناقضاً أمانه فإذا فعله ذمّيّ لا يكون ناقضاً أمانه أيضاً‏.‏

ألا ترى أنّه لو قطع الطّريق فقتل وأخذ المال لم يكن به ناقضاً للعهد، وإن كان قطع الطّريق محاربةً للّه ورسوله بالنّصّ فهذا أولى‏.‏

وكذلك لو فعله مستأمن فإنّه لا يصير ناقضاً لأمانه بمنزلة ما لو قطع الطّريق، إلاّ أنّه يوجع عقوبةً في جميع ذلك لأنّه ارتكب ما لا يحلّ له وقصد بفعله إلحاق الضّرر بالمسلمين‏.‏

فإن كان حين طلب الأمان قال له المسلمون‏:‏ آمنّاك إن لم تكن عيناً للمشركين على المسلمين، أو آمنّاك على أنّك إن أخبرت أهل الحرب بعورة المسلمين فلا أمان لك - والمسألة بحالها - فلا بأس بقتله، لأنّ المعلّق بالشّرط يكون معدوماً قبل وجود الشّرط، فقد علّق أمانه هاهنا بشرط ألاّ يكون عيناً، فإن ظهر أنّه عين كان حربيّاً لا أمان له فلا بأس بقتله‏.‏ وإن رأى الإمام أن يصلبه حتّى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك، وإن رأى أن يجعله فيئاً فلا بأس به أيضاً كغيره من الأسراء، إلاّ أنّ الأولى أن يقتله هاهنا ليعتبر غيره‏.‏

فإن كان مكان الرّجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضاً، لأنّها قصدت إلحاق الضّرر بالمسلمين، ولا بأس بقتل الحربيّة في هذه الحالة، كما إذا قاتلت، إلاّ أنّه يكره صلبها لأنّها عورة وستر العورة أولى‏.‏

وإن وجدوا غلاماً لم يبلغ، بهذه الصّفة، فإنّه يجعل فيئاً ولا يقتل، لأنّه غير مخاطب، فلا يكون فعله خيانةً يستوجب القتل بها، بخلاف المرأة‏.‏ وهو نظير الصّبيّ إذا قاتل فأخذ أسيراً لم يجز قتله بعد ذلك، بخلاف المرأة إذا قاتلت فأخذت أسيرةً فإنّه يجوز قتلها‏.‏

والشّيخ الّذي لا قتال عنده ولكنّه صحيح العقل بمنزلة المرأة في ذلك لكونه مخاطباً‏.‏

وإن جحد المستأمن أن يكون فعل ذلك، وقال‏:‏ الكتاب الّذي وجدوه معه إنّما وجده في الطّريق وأخذه، فليس ينبغي للمسلمين أن يقتلوه من غير حجّة، لأنّه آمن باعتبار الظّاهر، فما لم يثبت عليه ما ينفي أمانه كان حرام القتل‏.‏ فإن هدّدوه بضرب أو قيد أو حبس حتّى أقرّ بأنّه عين فإقراره هذا ليس بشيء، لأنّه مكره، وإقرار المكره باطل سواء أكان الإكراه بالحبس أم بالقتل، ولا يظهر كونه عيناً إلاّ بأن يقرّ به عن طوع، أو شهد عليه شاهدان بذلك، ويقبل عليه بذلك شهادة أهل الذّمّة وأهل الحرب، لأنّه حربيّ فينا وإن كان مستأمناً، وشهادة أهل الحرب حجّة على الحربيّ‏.‏

وإن وجد الإمام مع مسلم أو ذمّيّ أو مستأمن كتاباً فيه خطّه وهو معروف، إلى ملك أهل الحرب يخبر فيه بعورات المسلمين فإنّ الإمام يحبسه، ولا يضربه بهذا القدر، لأنّ الكتاب محتمل فلعلّه مفتعل، والخطّ يشبه الخطّ، فلا يكون له أن يضربه بمثل هذا المحتمل، ولكن يحبسه نظراً للمسلمين حتّى يتبيّن له أمره‏:‏ فإن لم يتبيّن خلّى سبيله، وردّ المستأمن إلى دار الحرب، ولم يدعه ليقيم بعد هذا في دار الإسلام يوماً واحداً، لأنّ الرّيبة في أمره قد تمكّنت وتطهير دار الإسلام من مثله من باب إماطة الأذى فهو أولى‏.‏

7- مذهب المالكيّة‏:‏ أنّ الجاسوس المستأمن يقتل، وقال سحنون في المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبار المسلمين‏:‏ يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب‏.‏ وقيل‏:‏ يجلد نكالاً ويطال حبسه وينفى من الموضع الّذي كان فيه، وقيل‏:‏ يقتل إلاّ أن يتوب، وقيل‏:‏ إلاّ أن يعذر بجهل‏.‏ وقيل‏:‏ يقتل إن كان معتاداً لذلك، وإن كانت فلتةً ضرب ونكّل‏.‏

وقد جاء في القرطبيّ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوَّكم أولياء‏}‏ ما يأتي‏:‏ من كثر تطلّعه على عورات المسلمين وينبّه عليهم ويعرف عددهم بأخبارهم لم يكن كافراً بذلك، إذا كان فعله لغرض دنيويّ واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتّخاذ اليد ولم ينو الرّدّة عن الدّين‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ لا يكون بذلك كافراً فهل يقتل بذلك حدّاً أم لا‏؟‏ اختلف النّاس فيه، فقال مالك وابن القاسم وأشهب‏:‏ يجتهد في ذلك الإمام‏.‏ وقال عبد الملك‏:‏ إذا كانت عادته ذلك قتل لأنّه جاسوس‏.‏ وقد قال مالك‏:‏ يقتل الجاسوس – وهو صحيح – لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض، ولعلّ ابن الماجشون إنّما اتّخذ التّكرار في هذا لأنّ حاطباً أخذ في أوّل فعله‏.‏

فإن كان الجاسوس كافراً، فقال الأوزاعيّ‏:‏ يكون نقضاً لعهده، وقال أصبغ‏:‏ الجاسوس الحربيّ يقتل، والجاسوس المسلم والذّمّيّ يعاقبان إلاّ إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه فرات بن حيّان فأمر به أن يقتل، فصاح‏:‏ يا معشر الأنصار أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلّى سبيله‏.‏ ثمّ قال‏:‏ إنّ منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان»‏.‏

8- ومذهب الشّافعيّ وطائفة‏:‏ أنّ الجاسوس المسلم يعزّر ولا يجوز قتله‏.‏

وإن كان ذا هيئة ‏(‏أي ماض كريم في خدمة الإسلام‏)‏ عفي عنه لحديث حاطب، وعندهم أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين، ولو شرط عليهم في عهد الأمان ذلك في الأصحّ، وفي غيره ينتقض بالشّرط‏.‏

9- وعند الحنابلة‏:‏ أنّه ينتقض عهد أهل الذّمّة بأشياء ومنها‏:‏ تجسّس أو آوى جاسوساً، لما فيه من الضّرر على المسلمين‏.‏

وممّا تقدّم يتبيّن أنّ الجاسوس الحربيّ مباح الدّم يقتل على أيّ حال عند الجميع، أمّا الذّمّيّ والمستأمن فقال أبو يوسف وبعض المالكيّة والحنابلة‏:‏ إنّه يقتل‏.‏

وللشّافعيّة أقوال أصحّها أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين، لأنّه لا يخلّ بمقصود العقد‏.‏ وأمّا الجاسوس المسلم فإنّه يعزّر ولا يقتل عند أبي يوسف ومحمّد وبعض المالكيّة والمشهور عند الشّافعيّة، وعند الحنابلة أنّه يقتل‏.‏

التّجسّس على الكفّار

10 - التّجسّس على الكفّار في الحرب لمعرفة عددهم وعددهم وما معهم من سلاح وغير ذلك مشروع، ودليل ذلك «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق صلّى هويّاً من اللّيل، ثمّ التفت فقال‏:‏ من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم - يشترط له النّبيّ أن يرجع - أدخله اللّه الجنّة قال راوي الحديث حذيفة‏:‏ فما قام رجل، ثمّ صلّى إلى‏.‏‏.‏ أن قال ذلك ثلاث مرّات فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة البرد وشدّة الجوع، فلمّا لم يقم أحد دعاني أي دعا الرّسول صلى الله عليه وسلم حذيفة فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال الرّسول‏:‏ يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتّى تأتينا قال فذهبت فدخلت في القوم، والرّيح وجنود اللّه عزّ وجلّ تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدر ولا نار ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش لينظر كلّ امرئ من جليسه، قال حذيفة‏:‏ فأخذت بيد الرّجل الّذي إلى جنبي فقلت‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا فلان بن فلان، ثمّ قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الّذي نكره‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ فهذا دليل جواز التّجسّس على الكفّار في الحرب‏.‏

تجسّس الحاكم على رعيّته

11 - سبق أنّ الأصل تحريم التّجسّس على المسلمين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا‏}‏

ويتأكّد ذلك في حقّ وليّ الأمر لورود نصوص خاصّة تنهي أولياء الأمور عن تتبّع عورات النّاس، منها ما رواه معاوية «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدّرداء‏:‏ كلمة سمعها معاوية من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفعه اللّه بها‏.‏ وعن أبي أمامة مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم»‏.‏

ولكنّ للحاكم أن يتجسّس على رعيّته إذا كان في ترك التّجسّس انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلاً خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيجوز له في هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار‏.‏

أمّا ما كان دون ذلك في الرّيبة فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه‏.‏‏"‏ وقد حكي أنّ عمر دخل على قوم يتعاقرون على شراب ويوقدون في أخصاص فقال‏:‏ نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين قد نهى اللّه عن التّجسّس فتجسّست، وعن الدّخول بغير إذن فدخلت‏.‏ فقال‏:‏ هاتان بهاتين وانصرف ولم يعرض لهم ‏"‏‏.‏

وقد اختلفت الرّواية عن الإمام أحمد فيما ستر من المنكر مع العلم به هل ينكر‏؟‏ فروى ابن منصور وعبد اللّه في المنكر يكون مغطًّى، مثل طنبور ومسكر وأمثاله فقال‏:‏ إذا كان مغطًّى لا يكسر‏.‏ ونقل عنه أنّه يكسر‏.‏ فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكره خارج الدّار، ولم يهجم بالدّخول عليهم، وليس عليه أن يكشف عمّا سواه من الباطن، وقد نقل عن مهنّا الأنباريّ عن أحمد أنّه سمع صوت طبل في جواره، فقام إليهم من مجلسه، فأرسل إليهم ونهاهم‏.‏

وقال في رواية محمّد بن أبي حرب في الرّجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال‏:‏ يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهوّل عليه‏.‏ وقال الجصّاص عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجسّسوا‏}‏ نهى اللّه تعالى عن سوء الظّنّ بالمسلم الّذي ظاهره العدالة والسّتر، ثمّ قال‏:‏ نهى اللّه تعالى عن التّجسّس، بل أمر بالسّتر على أهل المعاصي ما لم يظهر منهم إصرار‏.‏ ثمّ روي أنّ ابن مسعود قيل له‏:‏ هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد اللّه‏:‏ إنّا قد نهينا عن التّجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به‏.‏

تجسّس المحتسب

12 - المحتسب هو من يأمر بالمعروف إذا ظهر تركه وينهى عن المنكر إذا ظهر فعله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْتكن منكم أمّةٌ يدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهون عن المنكر‏}‏ وهذا وإن صحّ من كلّ مسلم لكنّ المحتسب متعيّن عليه بحكم ولايته، لكنّ غيره فرض عليه على سبيل الكفاية‏.‏ وما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسّس عنها ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا هذه القاذورة الّتي نهى اللّه عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر اللّه»‏.‏

فإن غلب على الظّنّ استتار قوم بها لأمارات دلّت وآثار ظهرت فذلك ضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق به أنّ رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو رجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من ارتكاب المحارم وفعل المحظورات‏.‏ والضّرب الثّاني‏:‏ ما خرج عن هذا الحدّ وقصر عن حدّ هذه الرّتبة، فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه كما تقدّم‏.‏

عقاب التّجسّس على البيوت

13 - روى مسلم عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من اطّلع في بيت قوم من غير إذنهم حلّ لهم أن يفقئوا عينه»

وقد اختلف العلماء في تأويله، فقال بعضهم‏:‏ هو على ظاهره، فيحلّ لمن اطّلع عليه أن يفقأ عين المطّلع حال الاطّلاع، ولا ضمان، وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وقال المالكيّة والحنفيّة‏:‏ ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضّمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ عاقبتم فعاقِبُوا بمثلِ ما عُوْقِبْتُمْ به‏}‏ ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفاً لكتاب اللّه تعالى لا يجوز العمل به‏.‏ وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلّم بالكلام في الظّاهر، وهو يريد شيئاً آخر، كما جاء في الخبر «أنّ عبّاس بن مرداس لمّا مدحه قال لبلال‏:‏ قم فاقطع لسانه» وإنّما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئاً ولم يرد به القطع في الحقيقة‏.‏

وهذا أيضاً يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد‏:‏ أن يعمل به عملاً حتّى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره‏.‏ وفي تبصرة الحكّام‏:‏ ولو نظر من كوّة أو من باب ففقأ عينه صاحب الدّار ضمن، لأنّه قادر على زجره ودفعه بالأخفّ، ولو قصد زجره بذلك فأصاب عينه ولم يقصد فقأها ففي ضمانه خلاف‏.‏

وأمّا عند الحنفيّة‏:‏ فإن لم يمكن دفع المطّلع إلاّ بفقء عينه ففقأها لا ضمان، وإن أمكن بدون فقء عينه ففقأها فعليه الضّمان‏.‏ أمّا إذا تجسّس وانصرف فليس للمطَّلع عليه أن يفقأ عينه اتّفاقاً‏.‏ وينظر للتّفصيل‏:‏ ‏(‏دفع الصّائل‏)‏‏.‏ أمّا عقوبة المتجسّس فهي التّعزير، إذ ليس في ذلك حدّ معيّن، والتّعزير يختلف والمرجع في تقديره إلى الإمام ‏(‏ر‏:‏ تعزير‏)‏‏.‏

تجشّؤ

انظر‏:‏ طعام‏.‏

تجمّل

انظر‏:‏ تزيّن‏.‏

تجميل

انظر‏:‏ تغيير‏.‏

تجهيز

التّعريف

1 - التّجهيز لغةً‏:‏ تهيئة ما يحتاج إليه‏.‏ يقال‏:‏ جهّزت المسافر‏:‏ إذا هيّأت له جهاز سفره‏.‏ ويطلق أيضاً على تجهيز العروس والميّت والغزاة، ويقال‏:‏ جهّزت على الجريح - بالتّثقيل - إذا أتممت عليه وأسرعت قتله، وذلك للمبالغة ‏(‏ومثله أجهزت‏)‏ وفعله من باب نفع، ويأتي على وزن أفعل‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإعداد‏:‏

2 - الإعداد‏:‏ التّهيئة والإحضار‏.‏ فالتّجهيز أعمّ من الإعداد، لأنّ التّجهيز يشمل الإعداد وغيره‏.‏

ب - التّزويد‏:‏

3 - التّزويد‏:‏ مصدر زوّدته أعطيته زاداً، فهو أخصّ من التّجهيز‏.‏ لأنّ التّجهيز يكون بالطّعام وغيره، أمّا التّزويد فهو بإعداد الزّاد أو إعطائه‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالتّجهيز

ويتكلّم الفقهاء في تجهيز العروس والمجاهدين والميّت، على من يجب، والحكم فيه، ومقداره، وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

تجهيز العروس

4 - مذهب الشّافعيّ‏:‏ عدم إجبار المرأة على الجهاز، وهو المفهوم من نصوص الحنابلة، فلا تجبر هي ولا غيرها على التّجهيز، فقد جاء في منتهى الإرادات‏:‏ وتملك زوجة بعقد جميع المسمّى، ولها نماء معيّن كدار والتّصرّف فيه‏.‏

أمّا الحنفيّة‏:‏ فقد نقل الحصكفيّ عن الزّاهديّ في القنية‏:‏ أنّه لو زفّت الزّوجة إلى الزّوج بلا جهاز يليق به فله مطالبة الأب بالنّقد‏.‏ وزاد في البحر عن المنتقى‏:‏ إلاّ إذا سكت طويلاً فلا خصومة له‏.‏ لكن في النّهر عن البزّازيّة‏:‏ الصّحيح أنّه لا يرجع على الأب بشيء، لأنّ المال في النّكاح غير مقصود‏.‏ ومفهوم هذا أنّ الأب هو الّذي يجهّز، لكنّ هذا إذا كان هو الّذي قبض المهر، فإن كانت الزّوجة هي الّتي قبضته فهي الّتي تطالب به على القول بوجوب الجهاز، وهو بحسب العرف والعادة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا قبضت الحالّ من صداقها قبل بناء الزّوج بها فإنّه يلزمها أن تتجهّز به على العادة من حضر أو بدو، حتّى لو كان العرف شراء دار لزمها ذلك، ولا يلزمها أن تتجهّز بأزيد منه‏.‏ ومثل حالّ الصّداق ما إذا عجّل لها المؤجّل وكان نقداً‏.‏

وإن تأخّر القبض عن البناء لم يلزمها التّجهيز سواء أكان حالّاً أم حلّ، إلاّ لشرط أو عرف‏.‏ ‏(‏أي فإنّه يلزمها التّجهيز للشّرط أو العرف‏)‏‏.‏

تجهيز الغزاة

5 - يجب على المسلمين أن لا يعطّلوا الجهاد في سبيل اللّه، وأن يجهّزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدّة وعتاد وزاد، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْفِقُوا في سبيلِ اللّهِ ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكَةِ‏}‏ وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرْهبون به عدوَّ اللّه وعدوَّكم وآخَرين من دونهم لا تَعْلَمُونهم اللّهُ يَعْلَمهم وما تُنفقوا من شيء في سبيلِ اللّه يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظْلمون‏}‏

وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعاً، حكّاماً ومحكومين، وهو من أعظم القرب لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من جهّز غازياً في سبيل اللّه فقد غزا» ومن المصادر الّتي يمكن تجهيز الغزاة منها‏:‏ الزّكاة من صنف ‏(‏سبيل اللّه‏)‏‏.‏

وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الغزاة يعطون من الزّكاة مطلقاً، ولو كانوا أغنياء‏.‏ لكنّ المالكيّة قيّدوه بأن يكون المعطون ممّن يجب عليهم الجهاد‏.‏

وقيّده الشّافعيّة بألاّ تكون أسماؤهم في ديوان الجند‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الغازي يعطى من الزّكاة إذا كان من منقطعي الغزاة، وهم الّذين عجزوا عن الالتحاق بجيش الإسلام لفقرهم‏.‏

وسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى في مصارف الصّدقات‏:‏ ‏{‏وفي سبيل اللّه‏}‏ وفي ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

تجهيز الميّت

6 - يجب تجهيز الميّت، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به، ولأنّ سترته واجبة في الحياة، فهي واجبة كذلك بالكفن في الممات‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ تجهيز الميّت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين‏.‏ ونفقات التّجهيز تكون من تركة الميّت إن ترك مالاً، وتقدّم على ديونه ووصيّته وإرثه، إلاّ أعيان التّركة الّتي تعلّق بها حقّ للغير، كعين الرّهن والمبيع ونحوهما‏.‏ فإن لم يكن له مال، وجب تجهيزه على من تجب عليه نفقته في حال حياته، فإن لم يوجد أحد من هؤلاء، وجب تجهيزه في بيت مال المسلمين إن وجد، فإن لم يوجد أو كان موجوداً ولم يمكن الأخذ فتجهيزه على المسلمين فرض كفاية‏.‏

ولا يجب على الزّوجة تجهيز زوجها المتوفّى عنها بلا خلاف‏.‏ وفي وجوب تجهيز الزّوج لزوجته المتوفّاة، خلاف يرجع إليه مع تفصيل البحث في مصطلح‏:‏ ‏(‏جنائز‏)‏‏.‏

تجهيل

التّعريف

1- من معاني التّجهيل في اللّغة‏:‏ النّسبة إلى الجهل‏.‏ يقال‏:‏ جهّلت فلاناً‏:‏ إذا قلت‏:‏ إنّه جاهل‏.‏ والجهل‏:‏ نقيض العلم‏.‏ ويكون الجهل أيضاً نقيض الحلم، يقال‏:‏ جهل فلان على فلان‏:‏ إذا سفه عليه وأخطأ‏.‏

يقال‏:‏ جهّل فلان جهلاً وجهالةً، والجهالة‏:‏ أن تفعل فعلاً بغير علم‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ أن لا يبيّن الأمين قبل موته حال ما بيده للغير من وديعة، أو لقطة، أو مال يتيم ونحوه، وكان يعلم أنّ وارثه لا يعلمها، مات وهو على ذلك‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - التّجهيل قد يرد على الوديعة، وهي المال الّذي يوضع عند شخص ليحفظه‏.‏ وهي أمانة نزل في شأنها قول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ اللّهَ يأمرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها‏}‏ قيل‏:‏ «نزلت في عثمان بن طلحة الحجبيّ الدّاريّ قبل إسلامه، كان سادن الكعبة يوم الفتح، فلمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة أغلق عثمان باب الكعبة وامتنع من إعطاء مفتاحها، زاعماً أنّه لو علم أنّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما منعه، فلوى عليّ رضي الله عنه يده، وأخذه منه، وفتح الباب ودخل صلى الله عليه وسلم الكعبة‏.‏ فلمّا خرج سأله العبّاس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح لتجتمع له السّدانة مع السّقاية، فأنزل اللّه تعالى الآية‏.‏ فأمر صلى الله عليه وسلم عليّاً أن يردّه إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال له‏:‏ أكرهتَ وآذيتَ ثمّ جئتَ ترفق‏؟‏ فقال له‏:‏ لقد أنزل اللّه في شأنك قرآناً وقرأ عليه الآية فأسلم، فجاء جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ما دام هذا البيت فإنّ المفتاح والسّدانة في أولاد عثمان»‏.‏

3 - وقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّدانة في أولاده إلى يوم القيامة، حيث قال‏:‏

«خذوها خالدةً تالدةً لا ينزعها منكم إلاّ ظالم» والمراد من الآية جميع الأمانات فيجب على من كانت عنده أمانة - وديعةً كانت أو غيرها - أن يبيّن أمرها حتّى لا يفاجئه الموت ولم يعيّن صاحبها، فتضيع عليه، ويكون مسئولاً عن تجهيلها‏.‏

قال ابن عبّاس‏:‏ ولم يرخّص اللّه لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة، أي يحبسها عن صاحبها عند طلبها‏.‏ وروي عنه عليه الصلاة والسلام «أنّه كانت عنده ودائع، فلمّا أراد الهجرة أودعها عند أمّ أيمن، وأمر عليّاً أن يردّها على أهلها»‏.‏

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ليس على المستودع ضمان ما لم يتعدّ»‏.‏

4 - وقد عظّم اللّه تعالى أمر الأمانة تعظيماً بليغاً وأكّده تأكيداً شديداً فقال عزّ وجلّ ‏{‏إنّا عَرَضْنَا الأمانةَ على السّمواتِ والأرضِ والجبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنّه كان ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ أي بمشقّتها الّتي لا تتناهى بها‏.‏ وإذا كانت الوديعة أمانةً كانت غير مضمونة بالهلاك مطلقاً، ما لم يكن المودع مفرّطاً أو متعدّياً، ومن التّعدّي التّجهيل عن قصد‏.‏

قال في البزّازيّة‏:‏ والمودع إنّما يضمن بالتّجهيل إذا لم يعرف الوارث الوديعة‏.‏

أمّا إذا علم الوارث الوديعة، والمودع يعلم أنّ الوارث يعلم، ومات ولم يبيّن لم يضمن‏.‏ ولو قال الوارث‏:‏ أنا علمتها، وأنكر الطّالب علم الوارث بها لتصير مضمونةً بالتّجهيل ينظر، إن فسّرها الوارث وقال‏:‏ هي كذا وكذا، وهلكت صدّق‏.‏ ومعنى ضمانها صيرورتها ديناً في تركته‏.‏

5- وفي حاشية ابن عابدين‏:‏ قال في مجمع الفتاوى‏:‏ المودع والمضارب والمستعير والمستبضع وكلّ من كان المال بيده أمانةً إذا مات قبل البيان، ولم تعرف الأمانة بعينها، فإنّ المال يكون ديناً عليه في تركته، لأنّه صار مستهلكاً للوديعة بالتّجهيل‏.‏ ومعنى موته مجهّلاً‏:‏ أن لا يبيّن حال الأمانة كما في الأشباه‏.‏

وقد سئل الشّيخ عمر بن نجيم عمّا لو قال المريض‏:‏ عندي ورقة في الحانوت لفلان ضمّنها دراهم لا أعرف قدرها، فمات ولم توجد‏.‏ فأجاب‏:‏ بأنّه من التّجهيل، لقوله في البدائع‏:‏ هو أن يموت قبل البيان ولم تعرف الأمانة بعينها‏.‏

6- ومن الأمانات الرّهن، إذا مات المرتهن مجهّلاً يضمن قيمة الرّهن في تركته، وكذا الوكيل إذا مات مجهّلاً ما قبضه‏.‏

وقد نصّت المادّة 801 من المجلّة على أنّه‏:‏ ‏(‏إذا مات المستودع ووجدت الوديعة عيناً في تركته يكون أمانةً في يد وارثه، فيردّها لصاحبها‏.‏ وأمّا إذا لم توجد عيناً في تركته‏:‏ فإن أثبت الوارث أنّ المستودع قد بيّن حال الوديعة في حياته، كأن قال‏:‏ رددت الوديعة لصاحبها، أو قال‏:‏ ضاعت بلا تعدّ، فلا يلزم الضّمان‏.‏ وكذا لو قال الوارث‏:‏ نحن نعرف الوديعة، وفسّرها ببيان أوصافها، ثمّ قال‏:‏ إنّها هلكت أو ضاعت بعد وفاة المستودع صدّق بيمينه ولا ضمان حينئذ، وإذا مات المستودع بدون أن يبيّن حال الوديعة يكون مجهّلاً، فتؤخذ الوديعة من تركته كسائر ديونه، وكذا لو قال الوارث‏:‏ نحن نعرف الوديعة بدون أن يفسّرها ويصفها، لا يعتبر قوله‏:‏ إنّها ضاعت‏.‏ وبهذه الصّورة إذا لم يثبت أنّها ضاعت يلزم الضّمان من التّركة‏)‏‏.‏

7- وقد ورد في الأشباه والنّظائر لابن نجيم‏:‏ الأمانات تنقلب مضمونةً بالموت عن تجهيل إلاّ في ثلاث‏:‏ النّاظر إذا مات مجهّلاً غلّات الوقف، والقاضي إذا مات مجهّلاً أموال اليتامى عند من أودعها‏.‏ والسّلطان إذا أودع بعض الغنيمة عند الغازي ثمّ مات ولم يبيّن عند من أودعها‏.‏ هكذا في فتاوى قاضي خان في باب الوقف، وفي الخلاصة في باب الوديعة وذكرها الولوالجيّ وذكر من الصّور الثّلاث‏:‏ أحد الشّريكين المتفاوضين إذا مات ولم يبيّن حال المال الّذي في يده، ولم يذكره للقاضي، فصار المستثنى أربعةً‏.‏

وزاد ‏(‏أي صاحب الأشباه‏)‏ عليها مسائل‏:‏

الأولى الوصيّ إذا مات مجهّلاً فلا ضمان عليه كما في جامع الفصولين‏.‏

الثّانية‏:‏ الأب إذا مات مجهّلاً مال ابنه ذكره فيها أيضاً‏.‏

الثّالثة‏:‏ إذا مات الوارث مجهّلاً ما أودع عند موته‏.‏

الرّابعة‏:‏ إذا مات مجهّلاً لما ألقته الرّيح في بيته‏.‏

الخامسة‏:‏ إذا مات مجهّلاً لما وضعه مالكه في بيته بغير علمه‏.‏

السّادسة‏:‏ إذا مات الصّبيّ مجهّلاً لما أودع عنده محجوراً‏.‏ وهذه الثّلاث في تلخيص الجامع الكبير للخلّاطيّ فصار المستثنى عشرةً‏.‏ ومعنى موته مجهّلاً‏:‏ أن لا يبيّن حال الأمانة وكان يعلم أنّ وارثه لا يعلمها، فإن بيّنها وقال في حياته‏:‏ رددتها فلا تجهيل إن برهن الوارث على مقالته، وإلاّ لم يقبل قوله، وإن كان يعلم أنّ وارثه يعلمها فلا تجهيل‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ إذا توفّي المودع ولديه وديعة، ولم يردّها لصاحبها قبل موته، ولم يوص بها، أي لم يعلم بها من يقوم بردّها بعد موته من قاض أو أمين أو وارث ضمنها إن تمكّن من ردّها أو الإيصاء بها ولم يفعل، بخلاف ما إذا لم يتمكّن، كأن مات فجأةً أو قتل غيلةً أو سافر بها، لعجزه عن ذلك ومحلّ ذلك في غير القاضي‏.‏ أمّا القاضي إذا مات ولم يوجد مال اليتيم في تركته فلا يضمنه وإن لم يوص به، لأنّه أمين الشّرع، بخلاف سائر الأمناء ولعموم ولايته‏.‏ ولا أثر لكتابة المودع على شيء‏:‏ هذا وديعة فلان مثلاً، أو في أوراقه‏:‏ عندي لفلان كذا إلاّ إذا أقرّ به أو قامت به بيّنة أو أقرّ به الوارث‏.‏

والمالكيّة كذلك في الضّمان، وزادوا طول الزّمن، حيث قالوا‏:‏ تضمن الوديعة بموت المودع إذا لم يوص بها ولم توجد في تركته، فتؤخذ من تركته، لاحتمال أنّه تسلّفها، إلاّ أن يطول الزّمن من يوم الإيداع لعشر سنين فلا ضمان، ويحمل على أنّه ردّها لربّها‏.‏ ومحلّ كون العشر السّنين طوالاً إذا لم تكن الوديعة ببيّنة مقصودة للتّوثّق، وإلاّ فلا يسقط الضّمان، ولو زاد على العشرة أخذها ربّها إن ثبت بكتابة عليها أنّها له بخطّ المودع أو المودع‏.‏ ويرى الحنابلة‏:‏ أنّه إذا مات المودع وعنده وديعة ولا تتميّز من ماله فصاحبها غريم بها، فإن كان عليه دين سواها فهي والدّين سواء‏.‏

8- هذا ولا تثبت الوديعة إلاّ بإقرار سابق من الميّت أو ورثته أو ببيّنة تشهد بها، وإن وجد عليها مكتوباً وديعةً لم يكن حجّةً عليهم، لجواز أن يكون الظّرف كانت فيه وديعة قبل هذا، أو كانت وديعةً لمورّثهم عند غيره، أو كانت وديعةً فابتاعها‏.‏ وكذلك لو وجد في أوراق أبيه أنّ لفلان عندي وديعةً لم يلزمه بذلك، لجواز أن يكون قد ردّها ونسي الضّرب على ما كتب أو غير ذلك‏.‏

وتفصيل ذلك يرجع إليه في ‏(‏إبضاع، رهن، عاريّة، مضاربة، وديعة ووقف‏)‏‏.‏

تجويد

التّعريف

1- التّجويد لغةً‏:‏ تصيير الشّيء جيّداً‏.‏ والجيّد‏:‏ ضدّ الرّديء، يقال‏:‏ جوّد فلان كذا‏:‏ أي فعله جيّداً، وجوّد القراءة‏:‏ أي أتى بها بريئةً من الرّداءة في النّطق‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ إعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه‏.‏ والمراد بحقّ الحرف‏:‏ الصّفة الذّاتيّة الثّابتة له كالشّدّة والاستعلاء، والمراد بمستحقّ الحرف‏:‏ ما ينشأ عن تلك الصّفات الذّاتيّة اللّازمة كالتّفخيم، فإنّه ناشئ عن كلّ من الاستعلاء والتّكرير، لأنّه يكون في الحرف حال سكونه وتحريكه بالفتح والضّمّ فقط، ولا يكون في حال الكسر‏.‏ وهذا كلّه بعد إخراج كلّ حرف من مخرجه‏.‏ واعتبره بعضهم غير داخل في تعريف التّجويد، لأنّه مطلوب لحصول أصل القراءة، لكن قال الشّيخ عليّ القاريّ‏:‏ ولا يخفى أنّ إخراج الحرف من مخرجه أيضاً داخل في تعريف التّجويد، كما صرّح به ابن الجزريّ في كتاب التّمهيد، أي لأنّ المعرّف هو القراءة المجوّدة، وليس مطلق القراءة، وتجويد القراءة لا يكون إلاّ بإخراج كلّ حرف من مخرجه‏.‏ قال ابن الجزريّ‏:‏ التّجويد‏:‏ إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره، وتصحيح لفظه وتلطيف النّطق به على حال صيغته وكمال هيئته، من غير إسراف ولا تعسّف ولا إفراط ولا تكلّف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّلاوة، والأداء، والقراءة‏:‏

2 - التّلاوة اصطلاحاً‏:‏ قراءة القرآن متتابعاً كالأجزاء والأسداس‏.‏

أمّا الأداء فهو‏:‏ الأخذ عن الشّيوخ بالسّماع منهم أو القراءة بحضرتهم‏.‏

وأمّا القراءة فهي أعمّ من التّلاوة والأداء‏.‏

ولا يخفى أنّ التّجويد أمر زائد على هذه الألفاظ الثّلاثة، فهو أخصّ منها جميعها‏.‏

ب - التّرتيل‏:‏

3 - التّرتيل لغةً‏:‏ مصدر رتّل، يقال‏:‏ رتّل فلان كلامه‏:‏ إذا أتبع بعضه بعضاً على مكث وتفهّم من غير عجل‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو رعاية مخارج الحروف وحفظ الوقوف‏.‏ وروي نحوه عن عليّ رضي الله عنه حيث قال‏:‏ التّرتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف‏.‏

فالفرق بينه وبين التّجويد‏:‏ أنّ التّرتيل وسيلة من وسائل التّجويد، وأنّ التّجويد يشمل ما يتّصل بالصّفات الذّاتيّة للحروف، وما يلزم عن تلك الصّفات، أمّا التّرتيل فيقتصر على رعاية مخارج الحروف وضبط الوقوف لعدم الخلط بين الحروف في القراءة السّريعة، ولذلك أطلق العلماء ‏(‏التّرتيل‏)‏ على مرتبة من مراتب القراءة من حيث إتمام المخارج والمدود، وهو يأتي بعد مرتبة ‏(‏التّحقيق‏)‏ وأدنى منهما مرتبة وسطى تسمّى ‏(‏التّدوير‏)‏ ثمّ ‏(‏الحدر‏)‏ وهو المرتبة الأخيرة‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - لا خلاف في أنّ الاشتغال بعلم التّجويد فرض كفاية‏.‏

أمّا العمل به، فقد ذهب المتقدّمون من علماء القراءات والتّجويد إلى أنّ الأخذ بجميع أصول التّجويد واجب يأثم تاركه، سواء أكان متعلّقاً بحفظ الحروف - ممّا يغيّر مبناها أو يفسد معناها - أم تعلّق بغير ذلك ممّا أورده العلماء في كتب التّجويد، كالإدغام ونحوه‏.‏

قال محمّد بن الجزريّ في النّشر نقلاً عن الإمام نصر الشّيرازيّ‏:‏ حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته‏.‏

وذهب المتأخّرون إلى التّفصيل بين ما هو واجب شرعيّ من مسائل التّجويد، وهو ما يؤدّي تركه إلى تغيير المبنى أو فساد المعنى، وبين ما هو واجب صناعيّ أي أوجبه أهل ذلك العلم لتمام إتقان القراءة، وهو ما ذكره العلماء في كتب التّجويد من مسائل ليست كذلك، كالإدغام والإخفاء إلخ‏.‏ فهذا النّوع لا يأثم تاركه عندهم‏.‏

قال الشّيخ عليّ القاريّ بعد بيانه أنّ مخارج الحروف وصفاتها، ومتعلّقاتها معتبرة في لغة العرب‏:‏ فينبغي أن تراعى جميع قواعدهم وجوباً فيما يتغيّر به المبنى ويفسد المعنى، واستحباباً فيما يحسن به اللّفظ ويستحسن به النّطق حال الأداء‏.‏ ثمّ قال عن اللّحن الخفيّ الّذي لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء‏:‏ لا يتصوّر أن يكون فرض عين يترتّب العقاب على قارئه لما فيه من حرج عظيم‏.‏ ولما قال محمّد بن الجزريّ في منظومته في التّجويد، وفي الطّيّبة أيضاً‏:‏

والأخذ بالتّجويد حتمٌ لازمُ *** مَنْ لم يجوِّد القُرآن آثِمُ

قال ابنه أحمد في شرحها‏:‏ ذلك واجب على من يقدر عليه، ثمّ قال‏:‏ لأنّ اللّه تعالى أنزل به كتابه المجيد، ووصل من نبيّه صلى الله عليه وسلم متواتراً بالتّجويد‏.‏

وكرّر أحمد بن محمّد بن الجزريّ هذا التّقييد بالقدرة أكثر من مرّة‏.‏ ويدلّ لذلك الحديث الّذي رواه الشّيخان عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الماهرُ بالقرآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والّذي يقرأُ القرآنَ ويُتَعْتِعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ» وقد اعتبر ابن غازيّ في شرحه للجزريّة من الواجب الصّناعيّ‏:‏ كلّ ما كان من مسائل الخلاف من الوجوه المختارة لكلّ قارئ من القرّاء المشهورين، حيث يرى بعضهم التّفخيم ويرى غيره التّرقيق في موطن واحد، فهذا لا يأثم تاركه، ولا يتّصف بالفسق‏.‏ وكذلك ما كان من جهة الوقف، فإنّه لا يجب على القارئ الوقف على محلّ معيّن بحيث لو تركه يأثم، ولا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلاّ إذا كانت موهمةً وقصدها، فإن اعتقد المعنى الموهم للكفر كفر - والعياذ باللّه - كأن وقف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه لا يستحي‏}‏ دون قوله‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً ما‏}‏‏.‏ أو على قوله‏:‏ ‏{‏وما من إله‏}‏ دون ‏{‏إلاّ اللّه‏}‏‏.‏ أمّا قول علماء القراءة‏:‏ الوقف على هذا واجب، أو لازم، أو حرام، أو لا يحلّ، أو نحو ذلك من الألفاظ الدّالّة على الوجوب أو التّحريم فلا يراد منه ما هو مقرّر عند الفقهاء، ممّا يثاب على فعله، ويعاقب على تركه، أو عكسه، بل المراد‏:‏ أنّه ينبغي للقارئ أن يقف عليه لمعنًى يستفاد من الوقف عليه، أو لئلاّ يتوهّم من الوصل تغيير المعنى المقصود، أو لا ينبغي الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده، لما يتوهّم من تغيير المعنى أو رداءة التّلفّظ ونحو ذلك‏.‏ وقولهم‏:‏ لا يوقف على كذا، معناه‏:‏ أنّه لا يحسن الوقف عليه صناعةً، وليس معناه أنّ الوقف عليه حرام أو مكروه، بل خلاف الأولى، إلاّ إن تعمّد قاصداً المعنى الموهم‏.‏ ثمّ تطرّق ابن غازيّ إلى حكم تعلّم التّجويد بالنّسبة لمريد القراءة، فقرّر عدم وجوب ذلك على من أخذ القراءة على شيخ متقن، ولم يتطرّق اللّحن إليه، من غير معرفة علميّة بمسائله، وكذلك عدم وجوب تعلّمه على العربيّ الفصيح الّذي لا يتطرّق اللّحن إليه، بأن كان طبعه على القراءة بالتّجويد، فإنّ تعلّم هذين للأحكام أمر صناعيّ‏.‏ أمّا من أخلّ بشيء من الأحكام المجمع عليها، أو لم يكن عربيّاً فصيحاً، فلا بدّ في حقّه من تعلّم الأحكام والأخذ بمقتضاها من أفواه المشايخ‏.‏

قال الإمام الجَزَريّ في النّشر‏:‏ ولا شكّ أنّ الأمّة كما هم متعبّدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، كذلك هم متعبّدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة والمتّصلة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

ما يتناوله التّجويد من أمور

5 - التّجويد علم من علوم القرآن، ولكنّه يتميّز عن غيره من تلك العلوم المتّصلة بالقرآن بأنّه يحتاج إليه الخاصّة والعامّة، لحاجتهم إلى تلاوة كتاب اللّه تعالى كما أنزل، حسبما نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو إمّا أن يحصل بالتّعلّم لمسائله، أو يؤخذ بالتّلقّي من أفواه العلماء، ولا بدّ في الحالين من التّمرين والتّكرار‏.‏

قال أبو عمرو الدّانيّ‏:‏ ليس بين التّجويد وتركه إلاّ رياضة لمن تدبّره بفكه‏.‏ وقال أحمد بن الجزريّ‏:‏ لا أعلم سبباً لبلوغ نهاية الإتقان والتّجويد ووصول غاية التّصحيح والتّسديد مثل رياضة الألسن والتّكرار على اللّفظ المتلقّى من فم المحسن‏.‏

ويشتمل علم التّجويد على أبحاث كثيرة أهمّها‏:‏

أ - مخارج الحروف، للتّوصّل إلى إخراج كلّ حرف من مخرجه الصّحيح‏.‏

ب - صفات الحروف، من جهر وهمس مع معرفة الحروف المشتركة في الصّفة‏.‏

ج - التّفخيم والتّرقيق وما يتّصل بذلك من أحكام لبعض الحروف كالرّاء واللّام‏.‏

د - أحوال النّون السّاكنة والتّنوين والميم السّاكنة‏.‏

هـ - المدّ والقصر وأنواع المدّ‏.‏

و - الوقف والابتداء والقطع وما يتّصل بذلك من أحكام‏.‏

ز - أحكام الابتداء بالقراءة، من تعوّذ وبسملة وأحكام ختم القرآن وآداب التّلاوة‏.‏

وموطن تفصيل ذلك هو كتب علم التّجويد، وكذلك كتب القراءات في آخر أبحاثها كما في منظومة حرز الأماني للشّاطبيّ، أو في أوائلها كما في ‏"‏ الطّيّبة ‏"‏ لمحمّد بن الجزريّ، وفي بعض المطوّلات من كتب علوم القرآن كالبرهان للزّركشيّ، والإتقان للسّيوطيّ‏.‏

ما يخلّ بالتّجويد، وحكمه

6 - يقع الإخلال بالتّجويد إمّا في أداء الحروف، وإمّا فيما يلابس القراءة من التّغييرات الصّوتيّة المخالفة لكيفيّة النّطق المأثورة‏.‏

فالنّوع الأوّل يسمّى ‏(‏اللّحن‏)‏ أي الخطأ والميل عن الصّواب، وهو نوعان‏:‏ جليّ وخفيّ‏.‏ واللّحن الجليّ‏:‏ خطأ يطرأ على الألفاظ فيخلّ بعرف القراءة، سواء أخلّ بالمعنى أم لم يخلّ‏.‏ وسمّي جليّاً لأنّه يخلّ إخلالاً ظاهراً يشترك في معرفته علماء القرآن وغيرهم، وهو يكون في مبنى الكلمة كتبديل حرف بآخر، أو في حركتها بتبديلها إلى حركة أخرى أو سكون، سواء أتغيّر المعنى بالخطأ فيها أم لم يتغيّر‏.‏ وهذا النّوع يحرم على من هو قادر على تلافيه، سواء أوهم خلل المعنى أو اقتضى تغيير الإعراب‏.‏

وأمّا اللّحن الخفيّ‏:‏ فهو خطأ يطرأ على اللّفظ، فيخلّ بعرف القراءة ولا يخلّ بالمعنى‏.‏ وسمّي خفيّاً لأنّه يختصّ بمعرفته علماء القرآن وأهل التّجويد‏.‏ وهو يكون في صفات الحروف، وهذا اللّحن الخفيّ قسمان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يعرفه إلاّ علماء القراءة كترك الإخفاء، وهو ليس بفرض عين يترتّب عليه عقاب كما سبق، بل فيه خوف العتاب والتّهديد‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء كتكرير الرّاءات وتغليظ اللّامات في غير محلّها، ومراعاة مثل هذا مستحبّة تحسن في حال الأداء‏.‏

وأمّا النّوع الثّاني من الإخلال فهو ما يحصل من الزّيادة والنّقص عن الحدّ المنقول من أوضاع التّلاوة، سواء في أداء الحرف أو الحركة عند القراءة، وسبب الإخلال القراءة بالألحان المطربة المرجّعة كترجيع الغناء، وهو ممنوع لما فيه من إخراج التّلاوة عن أوضاعها الصّحيحة، وتشبيه القرآن بالأغاني الّتي يقصد بها الطّرب‏.‏

واستدلّوا لمنع ذلك بحديث عابس رضي الله عنه قال‏:‏ إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «بادروا بالموت ستّاً‏:‏ إمرة السّفهاء، وكثرة الشّرط، وبيع الحكم، واستخفافاً بالدّم، وقطيعة الرّحم، ونَشْواً يتّخذون القرآن مزامير يقدّمونه يغنّيهم، وإن كان أقلّ منهم فقهاً»‏.‏ قال الشّيخ زكريّا الأنصاريّ‏:‏ والمراد بلحون العرب‏:‏ القراءة بالطّبع والسّليقة كما جبلوا عليه من غير زيادة ولا نقص، والمراد بلحون أهل الفسق والكبائر‏:‏ الأنغام المستفادة من علم الموسيقى، والأمر في الخبر محمول على النّدب، والنّهي على الكراهة إن حصلت المحافظة على صحّة ألفاظ الحروف، وإلاّ فعلى التّحريم‏.‏

قال الرّافعيّ‏:‏ المكروه أن يفرّط في المدّ وفي إشباع الحركات، حتّى يتولّد من الفتحة ألف ومن الضّمّة واو‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ قال النّوويّ‏:‏ الصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع، لأنّه عدل به عن منهجه القويم، وهذا مراد الشّافعيّ بالكراهة‏.‏ وقد أورد علماء التّجويد نماذج من ذلك، فمنها ما يسمّى بالتّرقيص، والتّحزين، والتّرعيد، والتّحريف، والقراءة باللّين والرّخاوة في الحروف، والنّقر بالحروف وتقطيعها‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وتفصيل المراد بذلك في مراجعه، ومنها شروح الجزريّة، ونهاية القول المفيد، وقد أورد أبياتاً في ذلك من منظومة للإمام علم الدّين السّخاويّ، ثمّ نقل عن شرحها قوله‏:‏ فكلّ حرف له ميزان يعرف به مقدار حقيقته، وذلك الميزان هو مخرجه وصفته، وإذا خرج عن مخرجه معطًى ما له من الصّفات على وجه العدل في ذلك من غير إفراط ولا تفريط فقد وزن بميزانه، وهذا هو حقيقة التّجويد‏.‏ وسبيل ذلك التّلقّي من أفواه القرّاء المتقنين‏.‏

تحالف

انظر‏:‏ حلف‏.‏

تحبيس

انظر‏:‏ وقف‏.‏

تحجير

التّعريف

1 - التّحجير أو الاحتجار لغةً واصطلاحاً‏:‏ منع الغير من الإحياء بوضع علامة كحجر أو غيره على الجوانب الأربعة، وهو يفيد الاختصاص لا التّمليك‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأرض المحجّرة - من الأراضي الخربة - لا يجوز إحياؤها، لأنّ من حجّرها أولى بالانتفاع بها من غيره، فإن أهملها فللفقهاء تفصيلات‏.‏

فالحنفيّة والمالكيّة وضعوا مدّةً قصوى للاختصاص الحاصل بالتّحجير، وهي ثلاث سنوات، وهذا هو الحكم ديانةً، أمّا قضاءً فإذا أحياها غيره قبل مضيّ هذه المدّة ملكها، وهذا هو الحكم عند الحنفيّة، فإن لم يقم بتعميرها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره، لقول عمر رضي الله عنه‏:‏‏"‏ ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ ‏"‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة، وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّه إذا أهمل المتحجّر إحياء الأرض مدّةً غير طويلة عرفاً، وجاء من يحييها فإنّ الحقّ للمتحجّر‏.‏

والوجه الآخر للحنابلة‏:‏ أنّ التّحجير بلا عمل لا يفيد، وأنّ الحقّ لمن أحيا تلك الأرض‏.‏ وسبق التّفصيل في مصطلح ‏(‏إحياء الموات ج 2 /16‏)‏‏.‏

تحديد

التّعريف

1 - التّحديد لغةً‏:‏ مصدر حدّد، وأصل الحدّ‏:‏ المنع والفصل بين الشّيئين، يقال‏:‏ حدّدت الدّار تحديداً‏:‏ إذا ميّزتها من مجاوراتها بذكر نهاياتها‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ تحديد الشّيء عبارة عن ذكر حدوده، ويستعمل غالباً في العقار، كما يقولون‏:‏ إن ادّعى عقاراً حدّده، أي ذكر المدّعي حدوده‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعيين‏:‏

2 - تعيين الشّيء‏:‏ تخصيصه من الجملة، يقال‏:‏ عيّنت النّيّة إذا نويت صوماً معيّناً، ومنه خيار التّعيين، وهو أن يشتري أحد الشّيئين أو الثّلاثة على أن يعيّنه في خلال ثلاثة أيّام‏.‏ ب - التّقدير‏:‏

3 - التّقدير من القدر، وقدر الشّيء ومقداره‏:‏ مقياسه، فالتّقدير‏:‏ وضع قدر للشّيء أو قياسه، أو التّروّي والتّفكير في تسوية أمر وتهيئته، ومنه‏:‏ تقدير القاضي العقوبة الرّادعة في التّعزير بحيث تتناسب مع الجريمة والمجرم‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - تحديد المعقود عليه في العقود الواردة على العقار بحيث تنتفي الجهالة شرط لصحّة العقد‏.‏ وتحديد المدّعي شرط لصحّة الدّعوى إذا كان عقاراً، لأنّ العقار لا يمكن إحضاره فتعذّر تعريفه بالإشارة، فيعرف بالحدود، فيذكر المدّعي الحدود الأربعة، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم، ويذكر المحلّة والبلد، وإلاّ لا تصحّ الدّعوى‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

مواطن البحث

يذكر الفقهاء تحديد المدّعي في كتاب الدّعوى، وتحديد المعقود عليه في البيع والإجارة ونحوها‏.‏

تحرّف

التّعريف

1 - من معاني التّحرّف في اللّغة‏:‏ الميل، والعدول عن الشّيء‏.‏ يقال‏:‏ حرّف عن الشّيء يحرّف حرفاً وتحرّف‏:‏ عدل، وإذا مال الإنسان عن شيء يقال‏:‏ تحرّف‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ يطلق على التّحرّف في القتال بمعنى ترك الموقف إلى موقف أصلح للقتال منه، حسب ما يقتضيه الحال، أو للتّوجّه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، أو مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له يمكنه إصابتها، فيكرّ عليه‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - إذا التقى جيش المسلمين والكفّار وكان عدد الكفّار مثلي المسلمين أو أقلّ يحرم الفرار والانصراف إلاّ متحرّفاً لقتال، فيجوز له الانصراف بقصد التّحرّف، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا لَقِيتُم الّذين كفروا زَحْفاً فلا تُوَلُّوهم الأَدْبارَ، ومن يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَه إلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فقد باءَ بِغَضَبٍ من اللّه ومَأْواه جهنّمُ وبئسَ المصيرُ‏}‏‏.‏ والمتحرّف هو من ينصرف من جهة إلى أخرى حسبما يقتضيه الحال، فله أن ينتقل من مكان ضيّق إلى مكان أرحب منه، ليتبعه العدوّ إلى متّسع سهل للقتال، أو من موضع مكشوف إلى موضع آخر غير مكشوف ليكمن فيه ويهجم، أو عن محلّه لأصون منه عن نحو ريح أو شمس أو عطش، أو يفرّ بين أيديهم لتنتقض صفوفهم ويجد فيهم فرصةً، أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك ممّا جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يوماً في خطبته إذ قال‏:‏ ‏"‏ يا سارية بن زنيم الجبل ‏"‏، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم، فلمّا قدم ذلك الجيش أخبروا أنّهم لاقوا عدوّهم يوم جمعة، فظهر عليهم، فسمعوا صوت عمر فتحيّزوا إلى الجبل، فنجوا من عدوّهم فانتصروا عليهم‏.‏ والتّحرّف جائز بلا خلاف بين جمهور الفقهاء، ولكنّ المالكيّة أجازوه لغير أمير الجيش والإمام‏.‏ أمّا هما فليس لهما التّحرّف، لما يحصل بسبب ذلك من الخلل والمفسدة‏.‏ والتّفصيل موطنه مصطلح‏:‏ ‏(‏جهاد‏)‏‏.‏

تحرّي

التّعريف

1 - التّحرّي في اللّغة‏:‏ القصد والابتغاء، كقول القائل‏:‏ أتحرّى مسرّتك، أي أطلب مرضاتك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك تَحَرَّوا رَشَداً‏}‏ أي قصدوا طريق الحقّ وتوخّوه‏.‏ ومنه حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ أي اعتنوا بطلبها‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ بذل المجهود في طلب المقصود، أو طلب الشّيء بغالب الظّنّ عند عدم الوقوف على حقيقته‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاجتهاد‏:‏

2 - الاجتهاد والتّحرّي لفظان متقاربا المعنى، ومعناهما‏:‏ بذل المجهود في طلب المقصود، إلاّ أنّ لفظ الاجتهاد صار في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشّريعة، وبذل المجهود في تعرّف حكم الحادثة من الدّليل‏.‏

أمّا التّحرّي فقد يكون بدليل، وقد يكون بمجرّد شهادة القلب من غير أمارة‏.‏ فكلّ اجتهاد تحرّ، وليس كلّ تحرّ اجتهاد‏.‏

ب - التّوخّي‏:‏

3 - التّوخّي مأخوذ من الوخى، بمعنى القصد، فالتّحرّي والتّوخّي سواء، إلاّ أنّ لفظ التّوخّي يستعمل في المعاملات‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم للرّجلين اللّذين اختصما في المواريث‏:‏ «اذهبا وتوخّيا، واستهما، وليحلل كلّ واحد منكما صاحبه»‏.‏

وأمّا التّحرّي فيستعمل غالباً في العبادات‏.‏ كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا شكّ أحدكم في الصّلاة فليتحرّ الصّواب»‏.‏

ج - الظّنّ‏:‏

4 - الظّنّ‏:‏ هو إدراك الطّرف الرّاجح مع احتمال النّقيض، ففي الظّنّ يكون ترجيح أحد الأمرين على الآخر، فإن كان بغير دليل فهو مذموم، ويكون التّرجيح في التّحرّي بغالب الرّأي، وهو دليل يتوصّل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصّل به إلى ما يوجب حقيقة العلم، وقد يستعمل الظّنّ بمعنى اليقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم‏}‏‏.‏

د - الشّكّ‏:‏

5 - الشّكّ‏:‏ تردّد بين احتمالين مستويين، أي من غير رجحان لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ‏.‏ فالتّحرّي وسيلة لإزالة الشّكّ‏.‏

الحكم التّكليفي

6 - التّحرّي مشروع والعمل به جائز، والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة والمعقول‏:‏ أمّا الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنّ اللّه أعلمُ بإِيمانهنّ فإِن عَلِمْتُموهنَّ مُؤْمنات فلا تَرْجعوهنّ إلى الكفّار‏}‏‏.‏

وذلك يكون بالتّحرّي وغالب الرّأي، وأطلق عليه العلم‏.‏

وأمّا السّنّة‏:‏ فالحديثان السّابقان عند الكلام عن التّوخّي‏.‏

وأمّا ما يدلّ عليه من المعقول‏:‏ فهو أنّ الاجتهاد في الأحكام الشّرعيّة جائز للعمل به، وذلك عمل بغالب الرّأي، ثمّ جعل مدركاً من مدارك أحكام الشّرع، وإن كانت الأحكام لا تثبت به ابتداءً، فكذلك التّحرّي مدرك من مدارك التّوصّل إلى أداء العبادات وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداءً‏.‏

هذا، والتّحرّي في أحكام الشّرع ورد في مواضع كثيرة، ويختلف حكمه باختلاف مواطنه‏:‏

أوّلاً‏:‏ التّحرّي لمعرفة الطّاهر من غيره حالة الاختلاط‏:‏

أ - اختلاط الأواني‏:‏

7 - إذا اختلطت الأواني الّتي فيها ماء طاهر بالأواني الّتي فيها ماء نجس، واشتبه الأمر، ولم يكن معه ماء طاهر سوى ذلك، ولا يعرف الطّاهر من النّجس‏:‏

فإن كانت الغلبة للأواني الطّاهرة، يتحرّى عند الحنفيّة وبعض الحنابلة، لأنّ الحكم للغالب، وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطّاهر، وإصابته بتحرّيه مأمولة، ولأنّ جهة الإباحة قد ترجّحت‏.‏ وإن كانت الغلبة للأواني النّجسة أو كانا متساويين، فليس له أن يتحرّى إلاّ للشّرب حالة الضّرورة، إذ لا بديل له، بخلاف الوضوء فإنّ له بديلاً‏.‏

وظاهر كلام أحمد وأكثر أصحابه عدم جواز التّحرّي، وإن كثر عدد الأواني الطّاهرة‏.‏

وعند الشّافعيّة يجوز التّحرّي في الحالين، فيتوضّأ بالأغلب، لأنّه شرط للصّلاة، فجاز التّحرّي من أجله كالقبلة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان عنده ثلاثة أوان نجسة أو متنجّسة واثنان طهوران، واشتبهت هذه بهذه، فإنّه يتوضّأ ثلاثة وضوآت من ثلاثة أوان عدد الأواني النّجسة، ويتوضّأ وضوءاً رابعاً من إناء رابع، ويصلّي بكلّ وضوء صلاةً‏.‏

وحكى ابن الماجشون من المالكيّة قولاً آخر، وهو أنّه يتوضّأ من كلّ واحد من الأواني وضوءاً ويصلّي به‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏اشتباه‏)‏‏.‏

ب - اختلاط الثّياب‏:‏

8 - إذا اشتبهت على الشّخص ثياب طاهرة بنجسة، وتعذّر التّمييز بينها، وليس معه ثوب طاهر بيقين غيرها، ولا ما يغسلها به، ولا يعرف الطّاهر من النّجس، واحتاج إلى الصّلاة، فإنّه يتحرّى عند الحنفيّة، وهو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة ما عدا المزنيّ، ويصلّي في الّذي يقع تحرّيه على أنّه طاهر، سواء أكانت الغلبة للثّياب النّجسة أم الطّاهرة، أو كانا متساويين‏.‏ وقال الحنابلة، وابن الماجشون من المالكيّة‏:‏ لا يجوز التّحرّي، ويصلّي في ثياب منها بعدد النّجس منها، ويزيد صلاةً في ثوب آخر‏.‏

وقال ابن عقيل من الحنابلة‏:‏ يتحرّى في أصحّ الوجهين دفعاً للمشقّة‏.‏

وقال أبو ثور والمزنيّ‏:‏ لا يصلّي في شيء منها، كقولهما في الأواني‏.‏

ج - اختلاط المذكّاة بالميتة‏:‏

9 - إذا اختلطت المذكّاة بالميتة، فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّحرّي في حالة الاضطرار مطلقاً، أي سواء أكانت الغلبة للمذكّاة أم للميتة أو تساويا‏.‏

وفي حالة الاختيار لا يجوز التّحرّي إلاّ إذا كانت الغلبة للحلال‏.‏

وأمّا الأئمّة الثّلاثة فلا يجوز عندهم التّحرّي مطلقاً في هذا المجال‏.‏

د - التّحرّي في الحيض‏:‏

10 - إذا نسيت امرأة عدد أيّام حيضها وموضعها، واشتبه عليها حالها في الحيض والطّهر فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّ عليها أن تتحرّى، فإن وقع أكبر رأيها على أنّها حائض أعطيت حكمه، وإن وقع أكبر رأيها على أنّها طاهرة أعطيت حكم الطّاهرات، لأنّ غلبة الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة‏.‏

وأمّا إذا تحيّرت ولم يغلب على ظنّها شيء، فهي المتحيّرة أو المضلّة، فعليها الأخذ بالأحوط في الأحكام‏.‏ ولتفصيل أحكامها يرجع إلى مصطلح ‏(‏حيض، استحاضة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ معرفة القبلة بالاستدلال والتّحرّي‏:‏

11 - إنّ المصلّي إذا كان قادراً على استقبال القبلة، وكان بمكّة وفي حال مشاهدة الكعبة ومعاينته لها، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ عليه التّوجّه إلى عين الكعبة، ومقابلة ذاتها‏.‏ وإن كان نائياً عن الكعبة غائباً عنها‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّه يكفيه استقبال جهة الكعبة باجتهاد، وليس عليه إصابة العين، وهو الأظهر عند المالكيّة والحنابلة، وهو قول للشّافعيّ‏.‏

والأظهر عند الشّافعيّة، وهو قول للمالكيّة، ورواية عن الحنابلة‏:‏ أنّه تلزمه إصابة العين‏.‏ ولا يجوز الاجتهاد عند جمهور الفقهاء مع وجود محاريب الصّحابة، وكذلك محاريب المسلمين الّتي تكرّرت الصّلوات إليها‏.‏

كما أنّه لا يجوز الاجتهاد إذا كان بحضرته من يسأله من أهل المكان العالم بها، بشرط كونه مقبول الشّهادة، فالذّمّيّ والجاهل والفاسق والصّبيّ لا يعتدّ بإخباره في هذا المجال‏.‏

فإذا عجز المصلّي عن إصابة عين الكعبة والتّوجّه إلى جهتها استدلالاً بالمحاريب المنصوبة القديمة، أو سؤال من هو عالم بالقبلة، ممّن تقبل شهادته من أهل المكان‏:‏ فإن كان من أهل الاجتهاد في أمر القبلة، فعليه الاجتهاد‏.‏ والمجتهد في القبلة هو‏:‏ العالم بأدلّتها وهي‏:‏ النّجوم، والشّمس، والقمر، والرّياح، والجبال، والأنهار وغير ذلك من الوسائل والمعالم، وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع‏.‏ فإنّ كلّ من علم بأدلّة شيء كان من المجتهدين فيه، وإن جهل غيره‏.‏ وإن كان غير عالم بأدلّتها، أو كان أعمى فهو مقلّد وإن علم غيرها‏.‏ فالمصلّي القادر على الاجتهاد إن صلّى بغير اجتهاد، فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّه لا تجوز صلاته، وإن وقعت إلى القبلة، وكذلك إذا أدّاه الاجتهاد إلى جهة فصلّى إلى غيرها، ثمّ تبيّن أنّه صلّى إلى الكعبة، فصلاته باطلة عند الأئمّة الأربعة، لتركه الواجب، كما لو صلّى ظانّاً أنّه محدث ثمّ تبيّن أنّه متطهّر‏.‏ ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏استقبال‏)‏‏.‏

12 - من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال، بأن خفيت عليه الأدلّة لحبس أو غيم، أو التبست عليه أو تعارضت، ولم يكن هناك من يخبره اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الحنفيّة والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكيّة‏:‏ إلى أنّ عليه التّحرّي وتصحّ صلاته، لأنّ التّكليف بحسب الوسع والإمكان، وليس في وسعه إلاّ التّحرّي‏.‏ والمشهور عند الشّافعيّة أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت، سواء أكان في الوقت سعة أم لا، ويقضي لندرة حصول ذلك‏.‏ والأصل في هذا الباب ما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال‏:‏ «كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلّى كلّ رجل منّا على خياله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ اللّه‏}‏» وقال عليّ رضي الله تعالى عنه‏:‏‏"‏ قبلة المتحرّي جهة قصده ‏"‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّحرّي في الصّلاة‏:‏

13 - من شكّ في الصّلاة فلا يدري كم صلّى، فعند الحنفيّة إن كان يعرض له الشّكّ كثيراً في الصّلاة، وكان له رأي تحرّى، وبنى على أكبر رأيه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«من شكّ في الصّلاة فليتحرّ الصّواب»‏.‏

وعند المالكيّة يبني على الأقلّ، ويأتي بما شكّ فيه مطلقاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا شكّ في أثناء الصّلاة فعليه الأخذ بالأقلّ، ويسجد للسّهو‏.‏ ولو شكّ بعد السّلام فقولان عندهم‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقوم إلى التّدارك، كأنّه لم يسلّم‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه لا يعتبر بعد الفراغ لما فيه من العسر‏.‏

وأمّا الحنابلة فيفرّقون بين الإمام والمنفرد في المشهور من مذهبهم‏.‏ فمن كان إماماً وشكّ فلم يدر كم صلّى تحرّى وبنى على غالب ظنّه، وأمّا المنفرد فيبني على اليقين ‏(‏الأقلّ‏)‏، وفي رواية يبني على غالب ظنّه كالإمام، هذا إذا كان له رأي، أمّا إذا استوى عنده الأمران بنى على اليقين إماماً كان أو منفرداً‏.‏

رابعاً‏:‏ التّحرّي في الصّوم‏:‏

14 - من كان محبوساً أو كان في بعض النّواحي النّائية عن الأمصار، أو بدار حرب بحيث لا يمكنه التّعرّف على الأشهر بالخبر واشتبه عليه شهر رمضان‏:‏ فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجب عليه التّحرّي والاجتهاد في معرفة شهر رمضان، لأنّه أمكنه تأدية فرض بالتّحرّي والاجتهاد، فلزمه كاستقبال القبلة‏.‏

فإذا غلب على ظنّه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه، ثمّ إن تبيّن أنّه أصاب شهر رمضان، أو لم ينكشف له الحال أجزأه في قول عامّة الفقهاء، لأنّه أدّى فرضه بالاجتهاد، وأدرك ما هو المقصود بالتّحرّي‏.‏

وإن تبيّن أنّه صام شهراً قبله، فذهب الأئمّة الثّلاثة، والشّافعيّة في الصّحيح من المذهب أنّه لا يجزئه، لأنّه أدّى العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزئه كمن صلّى قبل الوقت‏.‏ وعند الشّافعيّة قول في القديم في حالة تبيّن الأمر بعد رمضان أنّه يجزئ، لأنّه عبادة تفعل في السّنة مرّةً، فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ‏.‏

أمّا إن تبيّن أنّه صام شهراً بعده، جاز عند جمهور الفقهاء، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة، وذلك بشرطين‏:‏ إكمال العدّة، وتبييت النّيّة لشهر رمضان، لأنّه قضاء، وفي القضاء يعتبر هذان الشّرطان، وفي قول للشّافعيّة أنّه أداء للعذر، لأنّ العذر قد يجعل غير الوقت وقتاً كما في الجمع بين الصّلاتين‏.‏

وعلى هذا فإن كان الشّهر الّذي صامه ناقصاً، ورمضان الّذي صامه النّاس تامّاً، صام يوماً، لأنّ صوم شهر آخر بعده يكون قضاءً، والقضاء يكون على قدر الفائت‏.‏

وعلى القول الثّاني للشّافعيّة - بأنّه يقع أداءً - يجزئه ولو صامه ناقصاً وصام النّاس رمضان تامّاً، لأنّ الشّهر يقع ما بين الهلالين‏.‏ وكذلك إن وافق بعض رمضان دون بعض، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق قبله لم يجزئه‏.‏

وأمّا إن ظنّ أنّ الشّهر لم يدخل فصام لم يجزئه، ولو أصاب، وكذا لو شكّ في دخوله ولم يغلب على ظنّه دخوله‏.‏ وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر بلا اجتهاد وهو قادر عليه، وبلا تحرّ، لا يجزئه كمن خفيت عليه القبلة‏.‏

ومن شكّ في الغروب في يوم غيم ولم يتحرّ لا يحلّ له الفطر، لأنّ الأصل بقاء النّهار‏.‏

خامساً‏:‏ التّحرّي في معرفة مستحقّي الزّكاة‏:‏

15 - من شكّ في حال من يدفع له الزّكاة لزمه التّحرّي‏:‏ فإن وقع في أكبر رأيه أنّه فقير دفع إليه، فإذا ظهر أنّه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتّفاق، وإن ظهر أنّه كان غنيّاً فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمّد، وهو قول أبي يوسف الأوّل، وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة، وهو قول للشّافعيّ‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ إن دفع الزّكاة باجتهاد لغير مستحقّ في الواقع كغنيّ، أو كافر مع ظنّه أنّه مستحقّ، لم تجزه‏.‏ أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فروايتان‏:‏ إحداهما يجزئه، والأخرى لا يجزئه‏.‏ ولمعرفة تفصيل أحكام ذلك يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ التّحرّي بين الأقيسة المتعارضة‏:‏

16 - إذا وقع التّعارض بين القياسين، ولم يكن هناك دليل لترجيح أحدهما على الآخر، ولم يقع اختياره على أحدهما بالعمل به، فيجب التّحرّي، خلافاً للإمام الشّافعيّ، فإنّه يقول‏:‏ لا يجب التّحرّي، بل للمجتهد أن يعمل بأيّهما شاء، وعلى هذا الخلاف، التّحرّي في قول صحابيّين عند من يقول بحجّيّة قول الصّحابيّ، والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث

17 - ورد ذكر التّحرّي في فصول كثيرة من كتب الفقه منها‏:‏ كتاب الصّلاة عند الكلام عن استقبال القبلة، وسجدة السّهو، وأبواب الحيض والطّهارة، والصّوم، وخصّص صاحب المبسوط للتّحرّي كتاباً مستقلّاً بعنوان ‏(‏كتاب التّحرّي‏)‏، كما أنّه يرجع لتفصيل أحكامه إلى مصطلحات ‏(‏استقبال، واستحاضة، واشتباه‏)‏‏.‏

تحريش

التّعريف

1 - التّحريش في اللّغة‏:‏ إغراء الإنسان أو الحيوان ليقع بقرنه، أي نظيره‏.‏ يقال‏:‏ حرّش بين القوم إذا أفسد بينهم، وأغرى بعضهم ببعض‏.‏

قال الجوهريّ‏:‏ التّحريش‏:‏ الإغراء بين القوم، أو البهائم، كالكلاب والثّيران وغيرهما، بتهييج بعضها على بعض، ففي التّحريش تسليط للمحرّش على غيره‏.‏ ويقال في تسليط الكلب المعلّم نحوه على الصّيد‏:‏ إشلاء‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للتّحريش عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّحريض‏:‏

2 - التّحريض‏:‏ الحثّ على القتال وغيره، وهو يكون في الخير والشّرّ، ويغلب استعماله فيما يكون الحثّ فيه لطرف، أمّا التّحريش فيكون فيه الحثّ لطرفين‏.‏

الحكم التّكليفي

3 - التّحريش بين النّاس بقصد الإفساد حرام، لأنّه وسيلة لإفساد ذات البين، واللّه لا يحبّ الفساد‏.‏ ومن صور التّحريش‏:‏ النّميمة‏.‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أخبركم بأفضلَ من درجةِ الصّيام والصّلاة والصّدقة‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ صلاح ذات البَيْن، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» أمّا تحريش الحيوان - بمعنى الإغراء والتّسليط والإرسال بقصد الصّيد - فمباح كإرسال الكلب المعلّم، وما في معناه من الحيوانات‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء في حرمة التّحريش بين البهائم، بتحريض بعضها على بعض وتهييجه عليه، لأنّه سفه ويؤدّي إلى حصول الأذى للحيوان، وربّما أدّى إلى إتلافه بدون غرض مشروع‏.‏

وجاء في الأثر‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن التّحريش بين البهائم»‏.‏ ويحرم التّحريش بين المسلمين بقصد الإفساد وإثارة الفتنة بينهم‏.‏ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن في التّحريش بينهم»‏.‏ أمّا الإغراء على فعل مشروع فيسمّى تحريضاً، ومنه التّحريض على ركوب الخيل، والتّدرّب على الرّمي، وفنون القتال وهو جائز‏.‏

وقال بعض الفقهاء‏:‏ إنّه مستحبّ‏.‏ وتفصيله في ‏(‏تحريض‏)‏‏.‏

تحريض

التّعريف

1 - التّحريض في اللّغة‏:‏ التّحضيض والحثّ على القتال وغيره والإحماء عليه‏.‏ وجاء في التّنزيل‏:‏ ‏{‏فقاتلْ في سبيلِ اللّه لا تُكَلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين‏}‏‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

وقريب من التّحريض الحثّ والتّحريش والإغراء والتّهييج‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّثبيط‏:‏

2 - التّثبّط مصدر ثبّطه عن الأمر تثبيطاً‏:‏ شغله عنه وعوَّقه‏.‏ ونحوه التّخذيل، وهو‏:‏ حمل أنصار الشّخص على ترك عونه وتثبيطه عن نصرته‏.‏ فالتّثبيط ضدّ التّحريض‏.‏

ب - الإرجاف‏:‏

3 - الإرجاف مصدر‏:‏ أرجف في الشّيء‏:‏ خاض فيه، وأرجف القوم‏:‏ إذا خاضوا في الأخبار السّيّئة وذكر الفتن‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والمرْجِفون في المدينة‏}‏ وهم الّذي يولّدون الأخبار الكاذبة الّتي يكون معها اضطراب في النّاس‏.‏

فالإرجاف وسيلة من وسائل التّثبيط الّذي هو ضدّ التّحريض‏.‏

ج - التّحريش‏:‏

4 - التّحريش‏:‏ إغراء الإنسان أو الحيوان ليقع بقرنه أي نظيره‏.‏ ولا يكون استعماله إلاّ في الشّرّ، وهو فيما يكون الحثّ فيه لطرفين‏.‏ أمّا التّحريض فيكون الحثّ فيه لطرف‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - يختلف حكم التّحريض باختلاف موضوعه‏:‏

فالتّحريض على القتال في الجهاد مأمور به، وكذلك التّحريض على البرّ والإحسان، كإطعام المساكين والأيتام‏.‏ والتّحريض في الفساد، وأنواع المنكر حرام‏.‏

وتحريض السّبع الضّاري، والكلب العقور على إنسان معصوم الدّم أو مال محترم حرام وموجب للضّمان، بتفصيل يأتي‏.‏

تحريض المجاهدين على القتال

6 - يسنّ للإمام والأمير إذا جهّز جيشاً أو سريّةً للخروج إلى الجهاد أن يحرّضهم على القتال وعلى الصّبر والثّبات‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتلْ في سبيلِ اللّه لا تُكَلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّبيّ حرِّض المؤمنينَ على القتالِ‏}‏

وتفصيله في باب الجهاد‏.‏

التّحريض على المسابقة

7 - يسنّ تحريض الرّجال على المسابقة والمناضلة وركوب الخيل‏.‏ ويجوز للإمام أن يدفع العوض من بيت المال، ومن ماله الخاصّ، كما يجوز للأفراد أيضاً أن يدفعوه، لأنّه بذل في طاعة، ويثاب عليه‏.‏ لأنّ ذلك من الإعداد الّذي أمر اللّه به في قوله عزّ من قائل‏:‏ ‏{‏وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ‏}‏

ولخبر‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يوماً على قوم يتناضلون فقال‏:‏ ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان رامياً» ولخبر‏:‏ «ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي»، ولخبر‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يدخل الجنّة بالسّهم الواحد ثلاثةً‏:‏ صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرّامي به، ومنبّله» إلخ‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏السّباق‏)‏‏.‏

تحريض الحيوان

8 - إذا حرّض حيواناً فجنى على إنسان فعليه الضّمان لتسبّبه، هذا رأي المالكيّة والحنابلة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان في موضع واسع كالصّحراء فقتله فلا ضمان، لأنّه لم يلجئه إلى قتله، والّذي وجد منه ليس بمهلك‏.‏ أمّا إذا كان في موضع ضيّق، أو كان الحيوان ضارياً شديد العدو لا يتأتّى الهرب منه في الصّحراء، وجب عليه الضّمان إذا قتل في الحال‏.‏ وعند الأحناف‏:‏ لا يضمن‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏الجنايات‏)‏‏.‏

تحريض المحرم كلباً على صيد

9 - إذا حرّض محرم كلباً على صيد ضمن، كحلال في الحرم بجامع التّسبّب فيهما‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏الإحرام‏)‏‏.‏